بعُلوِّ السماء، التقيتُ بإدوارد
قبل ثلاثين عاماً،
وكان الزمان أَقَلَّ جموحاً من الآن
قال كلانا:
إذا كان ماضيك تجربةً
فاجعلِ الغَدَ معنى ورؤيا!
لنذهبْ،
لنذهبْ إلى غدنا واثقين
بصدق الخيال، ومعجزة العشبِ.


لا أَتذكَّر أنَّا ذهبنا إلى السينما
في المساء. 

ولكنْ سمعْتُ هنوداً
قدامى ينادونني:
لا تَثِقْ بالحصان، ولا بالحداثِة 


يقول: أَنا من هناك. أَنا من هنا
ولستُ هناك، ولستُ هنا
لِيِ اسمانِ يلتقيان ويفترقان
ولي لُغتان, نسيت بأيَّهما
كنتُ أَحلُمُ،
لي لُغَةٌ إنجليزيَّةٌ للكتابة،
طيِّعةُ المفردات,
ولي لغةٌ من حوار السماء مع
القدس، فضيَّةُ النَّبْرِ، لكنها
لا تُطيعُ مخيّلتي!





والهويَّةُ؟ قلتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهويةَ بنتُ الولادة, لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أَنا المتعدِّد. في
داخلي خارجي المتجدِّدُ...




فاحملْ بلادك أَنَّى ذَهَبْتَ...
وكُنْ نرجسيّاً إذا لزم الأَمرُ /

منفىً هو العالم الخارجيُّ
ومنفىً هو العالم الداخليُّ
من أَنت بينهما؟
لا أُعرِّفُ نفسي تماماً
لئلاّ أُضيِّعها. و أَنا ما أَنا
وأنا آخري في ثُنَائيّةٍ
تتناغم بين الكلام وبين الإشارةْ.
ولو كنت أكتب شعراً لقلت:
أنا اثنان في واحد
كجناحَيْ سُنُونُوّةٍ ,
إن تأخَّر فَصْلُ الربيع
اكتفيتُ بحمل البشارةْ

يحبُّ بلاداً, ويرحل عنها
[هل المستحيل بعيد؟]
يحبُّ الرحيل إلى أيِّ شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعدَ كافيةً للجميع.
هنا هامش يتقدَّم. أو مركز يتراجع
لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً
لأن الهويَّةَ مفتوحةٌ للتعدُّد
لا قلعةً أو خنادقَ.



هل كتبتَ الروايةَ؟
حاولتُ... حاولت أن أستعيد بها
صورتي في مرايا النساء البعيدات،
لكنهن توغَّلْنَ في ليلهنَّ الحصين
وقلن : لنا عالم مستقلٌّ عن النصّ
لن يكتب الرجلُ المرأةَ اللغزَ والحُلْمَ
لن تكتب المرأةَ الرجل الرمز والنجمَ
لا حُبَّ يشبه حباً
ولا ليل يشبه ليلاً
دعونا نُعدِّدْ صفات الرجال ونضحكْ!

وماذا فعلتَ؟
ضحكت على عبثي
ورميتُ الروايةَ في سلة المهملات!


يحبُّ بلاداً ويرحل عنها:
أنا ما أكون وما سأكون
سأصنع نفسي بنفسي
وأختار منفايَ
منفايَ خلفيّةُ المشهد الملحميّ
أُدافع عن حاجة الشعراء
إلى الغد والذكريات معاً
وأدافع عن شَجَرٍ ترتديه الطيورُ
بلاداً ومنفى
وعن قمر لم يزل صالحاً لقصيدة حُبّ
أُدافع عن فكرة كسرتها هشاشةُ أصحابها
وأدافع عن بلد خَطَفَتْهُ الأساطيرُ .


هل تستطيع الرجوعَ إلى أي شيء؟
أمامي يجرُّ ورائي ويُسرع...
لا وقت في ساعتي لأخُطَّ سطوراً
على الرمل. لكنني أستطيع زيارة أمس،
إذا استمعوا في المساء
إلى الشاعر الرَّعَوِيِّ:
[فتاةٌ على النبع تملأ جَرَّتها
بحليب السحابْ
وتبكي وتضحك من نَحْلَةٍ
لسعت قلبها في مهبِّ الغيابْ
هل الحُبُّ ما يوجع الماءَ
أَم مَرَضٌ في الضبابْ..؟
إلى آخر الأُغنية]

إذن، قد يصيبك داءُ الحنين؟
حنينٌ إلى الغد ... أبعد أَعلى
وأَبعد. حُلْمي يقود خُطاي. ورؤيايَ
تُجلْسُ حُلْمي على ركبتيّ كقطِّ أَليف.



على سطح بيتي القديم، 

حاولتُ أن
أتحسِّس جلدَ الغياب ورائحةَ الصيف
من ياسمين الحديقة. لكن وحش الحقيقة
أَبعدني عن حنين تلفَّتَ كاللص خلفي

وهل خفت؟ ماذا أخافك؟
لا أستطيع لقاء الخسارة وجهاً
لوجه. وقفت على الباب كالمتسوّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق
سريري أنا... بزيارة نفسي لخمس دقائق؟
هل أَنحني باحترام لُسكان حلمي الطفوليِّ؟
هل يسألون : مَنِ الزائرُ الأجنبيُّ
الفضوليُّ؟ هل أستطيع الكلام عن
السلم والحرب بين الضحايا وبين ضحايا
الضحايا، بلا جملة اعتراضيّةٍ؟ هل
يقولون لي: لا مكان لحلمين في
مَخْدَع واحدٍ؟




في اسمي وفي اسمك، في زهرة
اللوز، في قشرة الموز, في لبن
الطفل، في الضوء والظلّ, في
حبة القمح، في عُلبة الملح 

قَنَّاصَةٌ بارعون يصيبون أَهدافهم
باميتاز


يقول: القصيدةُ قد تستضيفُ الخسارة
خيطاً من الضوء يلمع في قلب جيتارة.
أو مسيحاً على فرس مثخناً بالمجاز
الجميل. فليس الجماليّ إلاّ حضورَ
الحقيقيِّ في الشكل /

في عالم لا سماء له, تصبح الأرضُ
هاويةً. والقصيدة إحدى هبات العزاء



واصرخ لتسمع نفسك، واصرخ لتعلم
أنك ما زلتَ حيّاً وحيّاً، وأن الحياة
على هذه الأرض ممكنةٌ. فاخترع أملاً
للكلام، ابتكرْ جهةً أو سراباً
يطيل الرجاء،
وغنِّ، فإنَّ الجماليَّ حريَّةٌ /
أقول: الحياة التي لا تعرّف إلا
بضدَّ الموت... ليست حياة

يقول: سنحيا، ولو تركتنا الحياةُ
إلى شأننا. فلنكن سادة الكلمات
التي سوف تجعل قُرَّاءها خالدين



وقال: إذا متُّ قبلك
أُوصيكَ بالمستحيلْ!
سألت: هل المستحيل بعيد؟
فقال: على بعد جيلْ
سألت: وإن متّ قبلك؟
قال: أُعزِّي جبال الجليلْ
واكتب: ((ليس الجماليُّ إلاّ بلوغَ
الملائم)). والآن، لا تنس:
إن متُّ قبلك أوصيك بالمستحيلْ



نسرٌ يودِّع قمَّتَهُ عالياً
عالياً،
فالإقامة 
فوق القِمَمْ
قد تثير السَّأمْ

وداعاً،
وداعاً لشعر الألم!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق