رأيت فيما يرى النائم أنني أمشي في قفرة جرداء قد انبسطت رمالها على سطحها متجعدة تجعد الأمواج المتكسرة على سطح القاموس [ القاموس: وسط البحر ومعظمه ]. المحيط وكانت الشمس قد طفلت [ طفلت الشمس: احمرت للغروب ]. للإرياب فلم أر في بطحائها ظلا غير ظلي المستطيل الذي رسمته يد الشمس فأخطأت في تصويره كأنما حسبتني آدم أبا البشر [ ربما لم يكن آدم أطل من بنية قائمة، ولكن التشبيه بحسب الخيال الذهني على حد قوله تعالى (كأنه رؤوس الشياطين) ]. فأوسعتني طولاً ورسمتني ميلا.
أنشأت أمشي لا أعرف لي مذهباً ولا مضطرباً، وإنى يكون ذلك في صحراء قد تشابهت مسالكها. وتشاكلت مذاهبها وانفرج ما بين قاصيها ودانيها حتى انحدرت الشمس إلى مستقرها: وطار طائر الليل من مكمنه. ونشر الظلام اجنحته السوداء في الأفق حتى وجدتني أحير من دمعة وجد في مقلة عاشق؛ يدفعها الحب ويمنعها الحياء، ولا أعلم هل أنا سر كامن في باطن الظلماء، أو حوت مضطرب في أعماق الماء. وأحياناً كان يخيل إليّ أني في منجم من مناجم الفحم فأمد يدي أتلمس جدرانه مخافة أن أصطدم بواحد منها؛ ولم أزل كذلك حتى شعرت بأن الظلام قد بدأ ينفض صبغته. وان ذراته تتطاير هنا وههنا؛ فإذا أنا بين يدي جبل عال كأنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، أو ملك جبار قد لبس من قرص الشمس التاج الأحمر، ومن شعاعها الرداء الأصفر.
ولا تسل هنالك عما ألم بقلبي من الهم وعقلي من الخبال؛ حينما رأيت أن صعود السماء أقرب إلى الأمل، من صعود هذا الجبل، وحرت بين الاقدام والاحجام، فلم أر بد من الاستسلام لمقدور الحمام، ثم رميت بطرفي فرأيت بين الصخور المبعثرة في سفح الجبل صخرة بيضاء ناعمة الملمس، فأضطجعت عليها وأنا أتمثل بقول أبي العلاء؛
ضجة الموت رقدة يستريح الـ جسم فيها والعيش مثل السهاد
وما ي إلا غمضة الطرف ان شعرت بأنها تتحرك قليلاً قليلاً، ثم استقلت ثم طارت، فكدت احسب أنه الموت قد نزل، وانها الروح تصعد إلى الملأ الأعلى.. لولا أن فتحت عيني فرأيت ما كنت أحسبه صخرة طائراً أشبه شيء بالنسر في خلقه والقبة في ضخامتها واستدارتها، واستمر ذاهباً بي في أفق السماء، ثم رنق لحظة في الهواء ثم هبط إلى قمة الجبل فأسرعت بالانحدار عنه وهناك أحسست بسلسبيل بارد من الأمل يتسرب إلى قلبي فينقع غلته. ويطفيء لوعته، لأني رأيت السفح الثاني ورأيت بهجة الحياة وزهرة العمران.
رأيت على البعد خطوط الخرة حول سطور الماء ورأيت الأكواخ الصغيرة والقصور العظيمة كأنها العصافير السوداء، والحمائم البيضاء، وكان ما ألم بنفسي من السرور إنساني ما ألم بجسمي من النصب فانحدرت إليها فما بلغتها حتى رأيتني في مزرعة في وسطها بنية قد وقف على بابها شيخ هو أشبه الأشياء بما يتخيله فريق الخياليين من علماء الهيئة في صور سكان المريخ، فذعر مني كما يذعر الإنسان لرؤية الجان، وما كان الذي قام في نفسه مني بأكثر مما قام في نفسي منه، لولا أني الفت الغرائب، وعجبت عود العجائب فتقدمت نحوه وكأنما الهمت لغته، فحييته بها فحياني وهو يقول: ما كنت أحسب أن الشمس تطلع على مدينة غير هذه المدينةن أو أن في العالم إنساناً غير هذا الإنسان؛ فما زلت أحدثه واستدنيه حتى أنس بي ودعاني إلى منزله وخلطني بنفسه وأهله وقدم لي طعاماً شهياً ومهد لي مرقداً وثيراً. [ الوثير: الواطئ ]. وكان الليل قد أقبل للمرة الثانية من هجرتي هذه، فنمت نوماً هادئاً مطمئناً لا تروعني فيه خواطر الموت ولا وساوس الهلاك.
استيقظت أنا والشمس من مرقدينا على صوت تلك الأسرة الطاهرة الكريمة تصلي إلى الله تعالى صلاة الخاشعين المتبتلين وتدعو وهي مصطفة صفاً واحداً أن ييسر لها الله عسرها، ويسهل أمرها، ويصلح شأنها، ويمنحها معونته ونصره؛ فأخذ منظرها هذا من نفسي مأخذاً عظيماً فلم أر بداً من الانتظام في صفها، والدعاء بدعائها والبكاء لبكائها، وعجبت أن يكون مثل هذا الإيمان الخالص راسخاً في نفوس أهل هذه المدينة، ولم يرسل إليها رسول، ولم ينزل عليها كتاب؛ فلما فرغنا من الصلاة التفت إلى صاحب البيت وقلت له: أراكم تتعبدون، فمن تعبدون؟ وتصلون، فمن الذي تدعون؟ قال: نعبد الله خالق هذه الكائنات ومدبرهاح قلت: هل رأيتموه حتى عرفتموه قال نعم رأيناه في آثاره ومصنوعاته؛ رأيناه في السماء والماء، والفلك الدائم والنجم السائر، وفي أجنحة الحيوانات وبذور النباتات؛ ورأيناه في أنفسنا وعقولنا وأرواحنا قبل ذلك؛ قلت: ولم تعبدونه؟ قال: شكراً له على نعمة الخلق والرزق، وأن احدنا ليعنيه أن يشكر لصاحبه نعمته إذا أحسن إليه بجرعة أو أنعم عليه بمضغة؛ فأحرى به أن يشكر مانح المانحين، والمحسن إلى المحسنين؛ فقلت في نفسي: لقد بلغ الرجل مرتبة الموحدين الصادقين، الذي يعبدون الله مخلصين له الدين، لا يردون ثوباً ولا يخافون عقاباً، ثم سألته أين تذهبون بعد الموت؟ قال: على النعيم المقيم أو العذاب الأليم؛ قلت: لعلك تريد الجنة والنار؟ قال: لا أفهم ما تقول، وإنما أعلم أن الاله الحكيم لا يترك المحسن دون ن يجازيه خيراً على إحسانه، كما يأبى عده أن يسوي بين المحسن والمسيء؛ قلت: متى يكون المحسن محسناً والمسيء مسيئاً؛ قال: الاحسان عمل الخير؛ والإساءة الشر؛ لذلك لا ترى بيننا من يحدث نفسه بالاضرار بأخيه، أو من يقصر في دفع الأذى عنه.
فرغنا من الحديث وعرضت على الشيخ أن يزيرني في المدينة. فانحدر بي إليها، فرأيت شوارعها فسيحة منتظمة ومنازلها متفرقة غير متلاصقة، وقد أحاطت بكل منزل منها حديثة زاهرة؛ ورأيت سكانها مكبين على أعمالهم، مجدين في شؤونهم.. صغاراً وكباراً.. رجالاً ونساء.. ما فيهم فقير يتسول.. ولا متبطل يتثائب ويتململ؛ وأغرب ما ستهوى نظري إنني لم أرى في تلك المدينة ذلك التفاوت الذي أعرفه في مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم.. ومطاعمهم ومشاربهم، وهيأتهم وأزريائهم، كأن جميع سكانها سواسية في حالة المعيشة ودرجة الثروة، فسألت الشيخ: ألا يوجد فيكم غني وفقير، وسيد ومسود؟ قال: لا يا سيدي، حسب الرجل منا بيت يؤويه، ومزرعة تقيته ودابة تحمل أثقاله، ثم لا شأن له بعد هذا فيما سوى ذلك، لذلك لا يوجد فيها سيد ومسود لأنه لا يوجد فينا غني ولا فقير. قلت لابد أن يكون بينكم العاجز عن العمل والمتعطل الكسلان! قال: أما الكسلان فلا وجود له بيننا، لأنه يعلم أنا لا نرحمه ولا نغفر له ذلته في احتقار نعمة العقل والقوة بتعطيلهما عن العمل، وأما العاجز فنحدب عليه ونحسن إليه، ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلاً لأننا إنما نمنحه جزءاً من القوة التي منحنا الله إياها لنعبده بها، ولا نرى في وجوده العبادة افضل من مواساة العاجزين، ورحمة البائيسن.
وأنه ليحدثني بهذا الحديث إذ لاحت لنا بنية فخمة تمتاز عن غيرها من البنى بحسن نظامها، وجمال هندامها، فقلت للشيخ: هل أرى قصر الملك، قال لا، ولكنه قصر رجل شرير طماع قد خالف إرادة الله وحكمه فاحتجن [ احتجن المال: ضمه واحتواه ]. دون عباده أرضهم ومالهم ليعلو عليهم، ويستأثر بالنعمة من دونهم، فغضب الله عليه، وقلب نعمته نقمة، ورخاءه شدة، فإنه ما أراح [ اراح فلان الشيء: وجد ريحه ]. رائحة العيش الرغد حتى أسلم نفسه إلى شهواتها، وحملها فوق ما تحمل طبيعتها فما هو ذا اليوم يقاسي من آلام الأمراض وأنواع الاستقام ما بغض إليه العيش، وحبب إليه الموت: لم يحمه قصره، ولم يغني عنه ماله، فهو عبرة للمعتبرين، وموعظة السالبة؛ [ السابلة: المختلفون على الطرقات في حوائجهم ]. فكبر الرجل في ذرعي وعظم في عيني، وأكبرت فيه وفي أمته هذه الخلال الشريفة، والأخلاق العالية؛ وقلت في نفسي إن مدارسنا على ما تشتمل عليه دروسها من قواعد الحكمة وأصول التربية وفنون الآداب، لتعجز عن أن تخرج للناس رجالاً يستطيعون أن يساجلوا هؤلاء القوم في صفاتهم وفضائهم؛ وأردت ـ على ذكر المدارس ـ أن أعرف مناهج التعليم عندهم فقلت للشيخ: هل لك أن تزيرني مدرسة من مدارسكم؟ فعجب لسؤالي وقال: ما المدرسة؟ فكان عجبي لجوابه أكثر من عجبه لسؤالي وقلت: المدرسة مكان محدود يجتمع فيه صغار يتعلمون وكبار يعلمون؛ قال: ما الذي يتعلمه الصغار من الكبار؟ قلت: ما يصلح شأنهم يونفعهم في معاشهم وميعادهم؛ قال: وأي حاجة بنا إلى مثل هذا المجتمع الحاشد في مثل هذا المكان المحدود؟ إنا يا سيدي أرحم بأبنائنا من أن نكل أمرهم إلى غيرنا، فنحن الذين نتولى هذا الشأن منهم. فلا مدارس عندنا غير المصانع والمزارع؛ نعلمهم فيها كيف يرمون البذور.. وكيف يستنبتونها.. وكيف يصنعون الآلات وكيف يستعملونها.. وفيها نعلمهم كيف يبنون منازلهم وينسجون ملابسهم ويعدون عددهم.. وإنا لا نعرف علماً غير العمل ولا نعرف من العمل غير ما نحفظ به قوام حياتنا.. ونستعين به على عبادة ربنا. قلت الكم حاكم يتولى أموركم؟ قال لنا: حكم لا حاكم وهو رجل قد وثقنا به وبفهمه واستقامته.. فاخترناه لفصل الخصومات إن عرض لنا من ذلك عارض. قلت: أليس له جند وأعوان يؤيدونه ويتولون تنفيذ أحكامه؟ قال كلنا جنده وكلنا وأعوانه على كل من يختلف عليه أو يتمرد على حكمه فقد وثقنا به وبعدله وحسبنا ذلك وكفى.
قلت: أليس له سجناً يسجن فيه المجرمون؟
قال: لا.. حسب المجرم عندنا عقوبة أن يتفق أهل المدينة على احتقاره والزراية به.. وأن أحدنا لا يؤثر أن يتخطفه الطير أو يسقط عليه كسف [ الكسف القطعة ]. من السماء على أن يرى نفسه بغيضاً إلى قومه صغيراً في نفوسهم ذليلاً في أعينهم.. لا يرفعون إليه طرفاً ولا يقيمون له وزناً.
وما وصلنا إلى حديثنا إلى هذا الحد حتى كنا قد فرغنا من الطواف بالمدينة ووصلنا إلى المنزل الذي خرجنا منه.. فاستقبلنا أهله بالبشر والترحاب واستقبلوا شيخهم بالتقبيل والعناق.. فلم أر فيما رأيت من البيوت في مدن العالم وقراه بيتاً أسعد حظاً ولا أنعم عيشاً ولا أروح بالاً من هذا البيت.
تلك هي "مدينة السعادة" التي يعيش أهلها سعداء لا يشكون هماً.. لأهم قانعون. ولا يمسكون في أنفسهم حقداً.. لأنهم متساوون؛ ولا يستشعرون خوفاً لأنهم آمنون.
تلك "مدينة السعادة" التي رأيتها فأحببتها وأحبب العيش فيها.. لولا أن الله خلقه سنة لا تتبدل.. وشأناً لا يتحول.. فقد جاء الليل وأخذت مكاني من مرقدي في منزل الشيخ فلم استيقظ حتى رأيتني في فراشي في منزلي؛ فلا السهل ولا الجبل.. ولا الشيخ ولا المزرعة.. ولا المدينة ولا السعادة:
ولما نزلنا منزلاً طله الندى أنيقاً وبستاناً من النور حالياً
أجد لنا طيب المكان وحسنه منى فتمنينا فكنت الآمانيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق