كنا ونحن في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى، نرى جمال باشا هو كل شيء، وإليه ينتهي في بلدنا كل شيء. يخافه الكبار فكيف لا نخاف إن ذكراسمه نحن الصغار؟ كان معه الجيش، ومعه المال، ومعه السلاح، وكان يشنق.. لا يزال أمام عيني منظر المشنوقين في ساحة المرجة أيام الحرب العالمية الأولى. وبكيتهم مع من بكاهم، وسميتهم الشهداء مع من سماهم، وقلنا للمرجة بعدهم "ساحة الشهداء" ثم لما كبرت وعرفت بعض ما كنت أجهل من الحقائق، علمت أن أكثرهم لم يكونوا شهداء، ولا مظلومين براء، ولكن كان أكثرهم مجرمين. كانوا جواسيس، وكانوا أعواناً للإنجليز والفرنسيين، ثبت ذلك من الأوراق الرسمية التي وجدوها في القنصلية البريطانية والفرنسية من وثائقهما.
فكيف تضيع حقائق التاريخ في دعايات بعض الدول وبياناتها الرسمية؟ إن كذب عليم ولدك أو تلميذك نصحته ثم زجرته ثم عاقبته. ولكن من يعاقب من يزور التاريخ؟ هو يملك كل وسائل التزوير وأنت لا تملك من أسباب التصحيح شيئاً؟ السلطان معه، والدولة والمال والإذاعة والصحف معه، فما الذي هو معك؟.
كن مع الله ترى الله معك، وكفى بالله لمن كان معه بقلبه معيناً ونصيراً، وسيظهر الله الحق ولو طال المدى، وإن لم يظهر في الدنيا فإن هذه الدنيا فصلٌ من الرواية وليست الرواية كلها، إنه سيرفع الستار عما بقي من فصولها.
كم رأيت في حياتي من حكام انتهى إليهم في حياتهم أمر كل شيء ثم أمسوا ليس في أيديهم من الأمر شيء، بل لقد باتوا هم لا شيء:
ماتوا فما ماتت الدنيا لموتهم ولا تعطلت الأعياد والجمع
وسيموت كل طاغيةٍ جبار، ويمشي على طريق من سبقه. ما بقيت الدنيا لأحدٍ قبله حتى تبقى له. بل إن الأسماء التي كبرت حتى مشت على كل لسان، ودخلت كل أذن، وصار منها ما يخوف به الأولاد كالبعبع والعفريت والغول، لقد نسيت هذه الأسماء!.
كنت مرة مع بعض العوام، فجرى ذكر ستالين، فسألت أحدهم: ألا تعرف ستالين؟ فخجل من جهله، ثم قال: أنا يا أستاذ أستعمل الأسبرين، لا أعرف الستالين!.
وكم عدد الذين يعرفون من القراء تاريخ القرامطة؟ القرامطة الذين احتلوا مكة، وأقضوا جانب الدولة العباسية، وعاثوا في الأرض فساداً، وكانوا شر قبيلٍ انتسب زوراً إلى بني آدم. الذين ذبحوا الحُجاج ذبح النعاج وهم يطوفون حول البيت، واقتلعوا الحجر الأسود، وأخذوه معهم إلى هجر
وصاحب الزنج الذي أثار الأذناب على الرؤوس، والعبيد على السادة وأراد أن يقلب وضع المجتمع، ويجعل سافله عاليه، ورأسه تحت ورجليه من فوق، فقلبه الله فجعل جسده تحت الأقدام، وصيّره عبرةً للأنام.
لو كنت أستطيع أن أعد من علا حتى ظن أنه بلغ برأسه السحاب، ثم غدا تأكل جسده الدود تحت التراب! كلما رأيت ذلك تذكرت أمثاله، وتخيلت مصيره الذي لا يستطيع أن ينجو منه، هان عليّ ما أرى.
يا أيها القراء، أقول لكم بعد تجارب ثماني وسبعين سنة كاملة في هذه الحياة، رأيت فيها من خيرها وشرها، وذقت من حلوها ومرها، أقول لكم: من اغتر بهذه الدنيا واطمأن إليها فهو أحمق.
من ذكريات علي الطنطاوي،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق